التسلسل الزمني في التاريخ الفلكي بين الحضارات

علم الفلك هو من أقدم العلوم التي عرفها الإنسان، فقد ارتبط منذ بداياته بحاجات الإنسان الأساسية من تتبع الزمن، والتقويم، والطقوس الدينية، وحتى الزراعة و التجارة و مواسم الحصاد . وقد ساهمت حضارات قديمة كالسومرية والبابلية والمصرية واليونانية في وضع الأسس الأولى لهذا العلم، كلٌ بطريقته ووفق منظوره الكوني الخاص *

الحضارة السومرية (حوالي 3500 – 2000 ق.م)

تُعد الحضارة السومرية من أولى الحضارات التي اهتمت بالسماء، لكنها لم تميز بين الكواكب والنجوم مثلما نعرف اليوم، بل ركزت على تتبع حركات النجوم والظواهر السماوية من منطلق ديني وشعائري. وقد ابتكر السومريون تقسيم السنة إلى 12 شهرًا، واستخدموا الأبراج النجمية لتحديد الزمن وتوجيه الشعائر.

كان القمر هو العنصر السماوي الأهم بالنسبة لهم، واعتبروا دوراته معيارًا لحساب الشهور، وهو ما أدى إلى نشوء التقويم القمري ، فـ لاحظ السومريون السماء و الكوكبات النجمية فيها و بدأوا في رصدها مكانياً و إطلاق الأسماء المجازية عليها لتسهيل عملية الاستذكار لهم عند النظر لكل مساحة نجمية او ما يعرف اليوم بـ الأبراج

 و هي المساحات الثابته بالسماء الدنيا و تعتبر المدار الثبات للكواكب السيارة – فـ يعود الأصل في التسمية و الرصد إلى الحضارة السومرية و هذا الرصد هو حجر الأساس الأول لسلسلة من الاكتشافات للسماء في الحضارات القديمة اللتي تلت الحضارة السومرية في سلسلة الزمن .

الحضارة البابلية (حوالي 2000 – 500 ق.م)

ورث البابليون علم الفلك من السومريين، لكنهم طوروه بشكل ملحوظ. فقد بدأوا بتسجيل حركة الكواكب الداخلية و الخارجية  المعروفة آنذاك (عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري)، تبعها ” زحل و ما بعده من كواكب بعيدة وصولاً إلى بلوتو المعروف عند الحضارة البابلية ب اسم الكوكب الاقزم وهو الأبعد مداراً في مجموعتنا الشمسية

وتمكنوا من التنبؤ بظواهر فلكية مثل الخسوف والكسوف و تسجيلها كدورة زمنية تمتد 18.6 شهراً  و دورة الزهرة لـ  ثمان سنوات في تتبع مستمر لمدى 21 سنه كاملة وذلك باستخدام حسابات رياضية دقيقة نسبيًا.

كما وضعوا نظامًا فلكيًا يعتمد على تقسيم دائرة السماء إلى 12 برجًا، وهو ما شكّل أساس علم القياس الفلكي لاحقًا. وكان لعلماء بابل مثل “نبو-ريمانو” و”كيدينو” دور كبير في تطوير الجداول الفلكية، التي استخدمت لمراقبة الزمن والمواسم

و مع امتداد الحضارة البابلية  وضع العلماء الفلكيين في بابل حجر الأساس لمبدأ تكرار الزمن يؤدي لتكرار الاحداث ! فـ عزموا على رصد الزمن من الحركة الفلكية و رصد الاحداث العامة سياسياً اقتصادياً و اجتماعياً لجمع اكبر قدر من البيانات لتسهيل فهم عودة الزمن و التنبؤ بالاحداث معه .

  • البابليون استخدموا تقويمًا قمريًا – شمسيًا، حيث كانوا يعتمدون على دورات القمر (الشهر القمري)، ولكنهم أضافوا شهورًا كبيسة (شهر إضافي كل بضع سنوات) لمزامنة السنة القمرية مع السنة الشمسية. أي أنهم حاولوا “توفيق” التقويم القمري مع السنة الشمسية،

الحضارة المصرية القديمة (حوالي 3000 – 300 ق.م)

ركز المصريون القدماء على علم الفلك من زاوية دينية وزراعية. فقد اعتمدوا على نجم “سيريوس” (الشِّعرى اليمانية) لتحديد موعد فيضان النيل، وهو الحدث الأهم في حياتهم الاقتصادية.

كما بنوا تقويمًا شمسيًا دقيقًا يتكون من 365 يومًا، وقسموا السماء إلى 36 مجموعة نجمية تُعرف بـ”العُشْريات”، والتي استخدمت لتنظيم الطقوس الدينية والاحتفالات.

  • المصريون القدماء، هم أول من أنشأ تقويمًا شمسيًا صافياً من 365 يومًا، قسموه إلى 12 شهرًا، كل شهر 30 يومًا، مع إضافة 5 أيام “مقدسة” في نهاية السنة. وقد بُني هذا التقويم على مراقبة نجم “سيريوس” (الشِّعرى اليمانية)، والذي كان ظهوره الصباحي المتزامن مع فيضان النيل يشكل بداية السنة الجديدة

وقد صُممت المعابد والأهرامات وفق محاور فلكية دقيقة تشير إلى مواقع شروق الشمس والنجوم المهمة، ما يدل على فهم متقدم لحركات الأجرام السماوية

الحضارة اليونانية (حوالي 600 ق.م – 400 م)

جاء الإغريق بنقلة نوعية في علم الفلك، إذ بدأوا بالتفكير فيه بطريقة عقلانية ورياضية. من أبرز الفلاسفة والعلماء الذين أثروا في هذا المجال:

  • طاليس الملطي: أول من حاول تفسير الظواهر الفلكية تفسيرًا طبيعيًا لا أسطوريًا.
  • فيثاغورس: قال بأن الأجرام السماوية تتحرك وفق نظام هندسي متناغم.
  • أرسطو: وضع نموذجًا للكون يتمحور حول الأرض، وكان له تأثير طويل.
  • أريستارخوس: اقترح أن الشمس هي مركز الكون وليس الأرض، لكن فكرته لم تلقَ قبولًا.
  • بطليموس: في القرن الثاني الميلادي، دوّن كتاب المجسطي، الذي أصبح المرجع الأساسي في الفلك لقرون، بنظامه الأرضي الذي يفسر حركة الكواكب ضمن دوائر صغيرة (أفلاك التدوير)

في الختام

تُظهر هذه الرحلة الزمنية كيف انتقل علم الفلك من الملاحظة الدينية البسيطة إلى التفكير الرياضي والمنهجي. ورغم اختلاف الأهداف — من الزراعة والتقويم، إلى التنجيم والفلسفة — فإن الحضارات السومرية والبابلية والمصرية واليونانية وضعت اللبنات الأولى لعلم الفلك كما نعرفه اليوم، ومهّدت الطريق للثورات العلمية اللاحقة في العصور الإسلامية ثم الأوروبية. وعلى مر الحضارات و العصور المختلفة كان الفلك حاضراً معنا و فيه الكثير من الدعوة للتأمل في ابداع الخالق سبحانه لهذا النظام الكوني الدقيق ، بما يفوق قدرة العقل البشري بكل أدواته واختراعاته الدقيقة على مضاهاة او التحكم في هذا النظام الدقيق للفلك

{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:١٤]

انضم إلى نشرتنا البريدية

خُذ خطوة نحو التغيير، وابدأ رحلتك نحو وعي أعمق وطاقة أعلى.